يُعدُّ الذكاء الاصطناعي المصمم للتحادث مع البشر، أو ما يعرف بـ "روبوت الدردشة (Chatbot)" من التقنيات المهمة في مجالات متعددة، وقد تطورت إمكانياته مؤخرًا تطورًا مذهلًا وتسارع التنافس في تقنياته ودقتها بين مبرمجيها. ولعلنا جميعًا سمعنا بالثورة التي تحققت في هذا المجال في الشهر الماضي من خلال برنامج ChatGPT (تشات جي بي تي) الصادر بشكل تجريبي من منظمة الذكاء الاصطناعي المعروفة بـ OpenAI (أوبن أيه آي) الذي أثار ضجة كبيرة في الإنترنت وأصبح ضمن أكثر الموضوعات نقاشًا خلال الأيام الماضية، وخاصة مع تحطيم تطبيقه للرقم القياسي لإقبال المستخدمين عليه، حيث صرح الرئيس التنفيذي لمنظمة OpenAI بأن عدد مستخدمي هذا البرنامج بلغ مليونَ مستخدمٍ في أقل من أسبوع من إطلاقه. وفي هذا المقال، سنوضح أساس هذا البرنامج وكيفية عمله وآثاره، ونناقش باختصار شديد أبرز الإشكاليات فيه المتعلقة بقوانين حماية حقوق المؤلف، ودور هذه القوانين في التحكم في مصير هذه التقنية إيجابيًا.
إن تقنية المحادثة الذكية نشأت قبل عقود من الزمن وعمل على برمجتها عدد من المنظمات، ولكن لم تكن بدقة كبيرة وأثر بالغ إلا بعد بدء العمل على تطويرها من منظمة OpenAI منذ تأسيسها عام 2015م بهدف تعزيز وتطوير الأبحاث المتعلقة بالذكاء الاصطناعي بما يحقق المنفعة العامة للناس ويتجنب الآثار الضارة والسلبية لهذه التقنية. وكان من أبرز داعمي هذه المنظمة رجل الأعمال الأمريكي إيلون ماسك (Elon Musk) وشركة مايكروسوفت. وقد صدرت عدة نسخ تجريبية سابقة لبرنامج ChatGPT وبأسماء مختلفة، ثم أطلقت هذه النسخة الأخيرة وبشكل تجريبي كذلك في نهاية نوفمبر 2022م. وكانت نتائج هذه النسخة باهرة للغاية، من حيث عظم حجم المعلومات التي تزود بها المستخدم ودقتها وتناسقها، لكن مع وجود بعض الملاحظات عليها. فهذا البرنامج لا يقدم معلومات عامة فحسب، بل تمكن الاستفادة منه في كتابة المقالات والواجبات والأبحاث. فبالإمكان مثلا أن يطلب منه كتابة مقال حول مشكلة أو ظاهرة معينة وفي ثوان معدودة يقدم ذلك المقال كاملًا وبدقة عالية وكأن مختصًا كتبه. كما يمكن الانتفاع منه بشكل أوسع في كتابة الأبحاث والكتب العلمية والأدبية وفي البرمجة والتصميم والاستشارات الطبية والمجالات الاستشارية المتخصصة. وقد أثار هذه الإمكانيات تخوفًا حول أثر هذه التقنية في القضاء على كثير من الأعمال، وخاصة في مجال التعليم والخدمات الاستشارية والإدارية والتقنية، بالإضافة إلى وجود احتمالية تهديد هذا التطبيق لمحرك البحث الشهير "جوجل" (Google).
إلا أن هناك جوانب أخرى مهمة جدًّا تتعلق بمثل هذا التطبيق حول حماية حقوق المؤلف، ولم يُتطرق لها بالقدر الكافي في النقاشات والمقالات المنشورة مؤخرًا. فمن هذه الجوانب ما يتعلق بقانونية تدريب هذا الذكاء الاصطناعي الذي يبني عمله على بيانات ومعلومات من مصادر أخرى. فهناك تساؤل مهم حول ما إذا كان هناك انتهاك لحقوق المؤلفين في هذه العملية. وهو تساؤل عام يتعلق بعمل الذكاء الاصطناعي بشكل عام، وقد تفضل الأستاذ عيد الزهراني بمناقشته في مقال سابق بعنوان "الذكاء الاصطناعي بين مستقبل المطورين وحقوق المؤلفين (الجزء الأول)" ورجح فيه الرأي المائل إلى ضرورة أخذ إذن من أصحاب المصنفات التي يستفيد منها الذكاء الاصطناعي عمومًا في بناء معلوماته. ونتفق عمومًا مع هذا الرأي من ناحية قانونية، بغض النظر عن آثاره السلبية على تطور تقنية الذكاء الاصطناعي التي من الممكن معالجتها بقوانين أخرى.
ولعل مسألة حماية حقوق المؤلف لمخرجات الذكاء الاصطناعي عمومًا من أهم القضايا حول موضوع تطبيق ChatGPT وحقوق المؤلف. فإذا تجاوزنا مسألة قانونية تدريب الذكاء الاصطناعي دون موافقةٍ من أصحاب المصنفات التي تدرب عليها، فستأتي هذه المسألة التي تعتبر أكثر أهمية بالنسبة للمستفيدين من التطبيق. فهل ستكون مخرجات تطبيق ChatGPT محمية بقوانين حقوق المؤلف، أم أنها ستعتبر من المشاع العام المتاح استخدامه للجميع؟ ولهذه المسألة عدة صور، من أوضحها: أن ينشئ تطبيق ChatGPT قصيدة وينشدها شخص ما ويحصل على أرباح من هذا الإنشاد. فإذا كانت مخرجات الذكاء الاصطناعي في هذه الحالة غير محمية، فسيكون للمنشد الحق في إنشاد هذه القصيدة بهدف ربحي دون أخذ موافقة على ذلك. وإذا كانت هذه القصيدة مشمولة بحماية حق المؤلف، فلن يجوز له ذلك دون الحصول على إذن سابق.
فإذا قلنا بعدم حماية مخرجات الذكاء الاصطناعي بقوانين حماية حقوق المؤلف، فقد يؤدي ذلك إلى تثبيط مطوري برامج المحادثة الذكية بما أن ذلك سيؤثر على قدرتهم في التحكم بسياسات إتاحة مصنفات هذه البرامج من حيث نشر بعضها للعموم وتخصيص بعضها باشتراكات معينة ونحو ذلك. وفي المقابل، إذا أُخذ بحماية حقوق المؤلف لمنتجات الذكاء الاصطناعي، فسيرد إشكال آخر حول من سيملك هذه الحقوق. فهل ستكون حقوق القصيدة في المثال السابق للذكاء الاصطناعي نفسه أو لمطوره أو لمستخدمه الذي أدت كتابة أسئلته وتعليماته في الذكاء الاصطناعي إلى تلك القصيدة؟ فإذا كانت حقوق المؤلف هنا للذكاء الاصطناعي نفسه، فلن يعقل ذلك لعدم إمكانية تصور تمتع الذكاء الاصطناعي بالأهلية القانونية التي تخول له التمتع بالحقوق المالية مثلًا. ويؤكد ذلك أن قوانين حماية حقوق المؤلف (ومنها نظام حماية حقوق المؤلف السعودي) تسند الحقوق إلى أشخاص، وصفة الشخصية لا تنطبق على الذكاء الاصطناعي. وإذا كانت هذه الحقوق لمطور تطبيق ChatGPT فسيؤدي ذلك إلى احتكار كثير من الإبداعات الممكنة. فحينما تقضي هذه التقنية على كثير من الأعمال التجارية الإبداعية، فسيكون المستفيد من ذلك جهة واحدة، وهي منطمة OpenAI. وإذا قلنا: إن هذه الحقوق للمستخدم، فكيف ينسب له المصنف ولا يصدق عليه أنه أبدعه بأصالة، مع كون الإبداع والأصالة من شروط الحماية في حقوق المؤلف؟ وإذا اعتبرنا أن توجيه المستخدم أسئلةً وتعليمات معينةً للذكاء الاصطناعي بمثابة التأليف، فسيتناقض ذلك مع الحالات المتعارف فيها أن نسبة مؤلفات الذكاء الاصطناعي فيها لمستخدمها يعتبر من الغش. فلو أن طالبًا جامعيًا كلف بكتابة بحث معين، وأعطى الذكاء الاصطناعي تعليمات محددة للخروج بهذا البحث وكنا ننسب حقوق المؤلف للطالب بصفته مستخدمًا وموجهًا ومنظمًا لعمل الذكاء الاصطناعي، فلا وجه إذن لاعتباره قد وقع في الغش في تسليم هذا البحث.
إن هذه المناهج في التعامل مع حماية الذكاء الاصطناعي ستؤثر إيجابًا أو سلبًا وبشكل مباشر أو غير مباشر على النقاش التقليدي الذي يثار دائمًا حول أثر إتاحة الذكاء الاصطناعي لهذا الكم الضخم من المعارف والخدمات على الاقتصاد بشكل عام. فهناك رأي بأن هذه التقنية قد تؤدي إلى زيادة اللجوء لها لتقضي على كثير من مجالات الأعمال. فسيكون من السهل الاستغناء عن عدد كبير من الباحثين والأكاديميين والصحفيين والمبرمجين والمصممين بما يؤثر على الاقتصاد عمومًا. فهذه من أبرز المخاطر المتوقعة التي تناقش حاليًا بعد ظهور تطبيق ChatGPT. وفي المقابل، هناك رأي بأن هذا التخوف مبالغ فيه. فتطبيق ChatGPT قد يؤثر على سبيل المثال في توجيه سوق العمل بشكل عام إلى وظائف بمهارات مختلفة بما يتواءم مع تقنيات الذكاء الاصطناعي فتكون الاستفادة منها أكثر، ولكن لا يعني ذلك بالضرورة القضاء على بعض المهن أو رفع نسبة البطالة. ولذلك، وإن كانت هذه الإشكاليات الاقتصادية ليست بالضرورة موضوع حماية حقوق المؤلف، فإنه من الممكن بعد التحقق من صحة وجودها، استغلال قوانين حماية حقوق المؤلف في تقييد تطور هذه التقنية بعدة وسائل، من أشدها اشتراط حصول مطوري الذكاء الاصطناعي على إذن من مؤلفي البيانات والمصنفات المستخدمة في تدريب هذه التقنية. وعلى العكس، إذا ثبت بعد دراسة الأمر أنه من المفيد اقتصاديا التوسع في إتاحة هذه التقنية، فمن الممكن التساهل في قوانين حقوق المؤلف بما يحقق ذلك.
فالتساؤلات والإشكاليات المشار إليها أعلاه حول هذه التقنية وعلاقتها بأحكام حماية حقوق المؤلف من الأهمية بمكان في هذا الوقت الذي تطورت فيه بشكل غير مسبوق. ومع توقع وجود آثار اقتصادية وأخلاقية لبرامج المحادثات الذكية عمومًا، فمن المهم بناء بيئة تشريعية واضحة لتنظيمها من عدة جوانب. ومن الممكن أن يكون لقوانين حقوق المؤلف دور كبير في هذا المجال نظرًا لتقاطع طبيعة عمل هذه التقنية ومخرجاتها مع أحكام حماية حقوق المؤلف. وعليه، نرى أنه آن الأوان لتكون هذه القضية على رأس أجندة اللجنة الدائمة المعنية بحق المؤلف والحقوق المجاورة في المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الوايبو). فبالاتفاق دوليًا على مبادئ عامة لتقنين هذه التقنية بقوانين حماية حقوق المؤلف، يمكن الوصول إلى تشريعات تزيل المخاوف والمخاطر المتوقعة منها. ولعدم وجود إجماع على مبدأ أخلاقي واضح للأساس الفلسفي لحقوق المؤلف وتطبيقاته التقنية، نرى أن من الضروري النظرَ في هذه القضية من ناحية نفعية واقتصادية بحتة، تحدث توازنًا بين تحفيز الابتكار في الذكاء الاصطناعي وما لا يضر بالمصالح الاقتصادية العامة.