شعار الهئية
  • EN
+A
A
A-
high-contrast-logoتباين عالي
voice-overالأوامر الصوتية

التأصيل الشرعي لحقوق المؤلف وقضية طبعية ووضعية هذه الحقوق

تاريخ النشر : 28 ديسمبر 2022

بعد توسع الاهتمام بقطاع الملكية الفكرية في المملكة العربية السعودية، وانضمامها لعدد من الاتفاقيات الدولية فيه (كاتفاق جوانب حقوق الملكية الفكرية المتصلة بالتجارة "تربس" عام 2005م)، طرحت للنقاش والبحث الفقهي مسألة التأصيل الشرعي لحقوق الملكية الفكرية وكيفية التعامل معها من ناحية شرعية، نظرًا لجدة هذا المفهوم وغياب الدراسات الصريحة له في المراجع الفقهية القديمة. وكان في هذه الأبحاث تركيز كبير وخاص على مسألة حقوق المؤلف بالتحديد. وأتى هذا الاهتمام بمجال حقوق المؤلف لكونه من أكثر المجالات المؤثرة على طلب العلم الشرعي وغيره من العلوم، ولتعلقه أيضًا بعامة المستهلكين في نسخ الكتب وبرمجيات الحاسب الآلي والتسجيلات الصوتية والأفلام والبثوث التلفزيونية وغيرها من المنتجات المحمية بقوانين حماية حقوق المؤلف. فأصبح هذا المجال زاخرًا بالأبحاث الشرعية وخاصة ارتباطه بنشر العلوم والمعارف. وبعد مراجعة تلك الأطروحات والدراسات القيمة، لاحظنا أن هناك قضية بالغة الأهمية يغيب النظر فيها عند التأصيل والتكييف الشرعي لهذه الحقوق، وهي قضية تحديد ما إذا كانت حقوق المؤلف حقوقًا طبعية أم وضعية. وهذا الأمر له تبعاته التطبيقية في التعامل مع أحكام نظام حماية حقوق المؤلف السعودي، كما سنوضحه فيما يلي. 

ونبدأ أولًا بشرح مفهومي الحقوق الطبعية والحقوق الوضعية في حقل فلسفة القانون الأخلاقية. فإن الحقوق توصف بأنها طبعية في هذا السياق إذا كانت حقوقًا أصيلة ومفترضة للجميع والأصل عدم جواز نزعها شرعًا وأخلاقًا، إلا في حالات استثنائية. فمثلًا، الأصل في الحماية ضد الاعتداء الجسدي أنه حق طبعي أصيل لكل شخص. وأما كون الحقوق تقع تحت مفهوم القانون الوضعي، فالمقصود بذلك أن هذه الحقوق أساسًا ليست أصيلة للأشخاص، بيد أن السلطة التشريعية لمصلحة ما رأت منحها لهم. ومثال ذلك: توفير تعليم حكومي عام، فهو أمر لا يجب ضمانه شرعًا وأخلاقًا، ولكن أجمعت دول العالم على إتاحته للناس لما فيه من مصلحة عامة. فبناء على ذلك، إذا اعتبرنا أن حقوق المؤلف من القانون الطبعي، فنحن نقرر أن هذه الحقوق من الواجب الشرعي والأخلاقي على الجهات التشريعية والتنفيذية حمايتها. فما قوانين حقوق المؤلف بناء على هذا الافتراض إلا كاشفة عن حقوق معلوم ثبوتها بالضرورة، وليست منشئة لها. وأما إذا اعتقدنا أن حقوق المؤلف من القانون الوضعي، فهذا يعني أن الأصل هو عدم حمايتها ولكن جاء فرض حمايتها من سلطة ولي الأمر لمنفعة عامة.

فهذه مسألة تعتبر جوهرية ويؤدي تجاوزها والنظر فيما دونها من مسائل إلى عدم اطراد في كثير من التصورات الشرعية المتصلة بأحكام حقوق المؤلف. وذلك لأنه تنبني على القول بطبعية حقوق المؤلف وكون حمايتها مفترضة شرعًا تأثيرات في عدة أمور، من أهمها مدة الحماية. فالحماية لحقوق المؤلف وفقًا لنظام حماية حقوق المؤلف تكون لمدة حياة المؤلف، ولخمسين سنة لورثته بعد وفاته. وفي بعض الحالات تكون أقل، كما هو الحال في حماية تأليف الفنون التطبيقية التي تمتد لخمس وعشرين سنة فقط. ومدد الحماية هذه متشابهة في جميع دول العالم لورود حدها الأدنى في اتفاقية تريبس المذكورة آنفًا (والمنضم لها أغلب دول العالم) ولرغبة الدول في عدم تأبيدها. فإذا كانت حقوق المؤلف طبعية وتعامل معاملة المال أو الملكية التقليدية كما يشير إلى ذلك كثير من الدراسات الفقهية، فسيشكل أمر تحديد مدة حمايتها للمؤلف أو ورثته لأن الأصل في ملكية الأموال ألا تكون مقيدة بمدة. وإذا اعتُبرت حقوق المؤلف من القانون الوضعي واعتُقد أن حمايتها ما جاءت إلا للمصلحة العامة وفقًا لتقدير ولي الأمر، فلن يكون هناك إشكال في المدة المحددة وغيرها من أحكام، ولكن يتطلب ذلك توافق التكييف الشرعي لحقوق المؤلف مع هذا التوجه، حيث لا نرى عادة في هذه الأبحاث الإشارة إلى مبدأ وضعية حقوق المؤلف، أو ما في معناه.

ولمزيد من التوضيح حول آثار التفريق بين طبعية حقوق المؤلف ووضعيتها في التكييف الشرعي لحمايتها، سننظر إلى إشكالية تنازع ورثة المؤلف في الحقوق المترتبة على المنتجات الإبداعية التي أنشأها المؤلف وتوفى عنها وتمتع بها ورثته من بعده. فقد قرر نظام حماية حقوق المؤلف في مادته الحادية عشرة أن هذه الحقوق جميعها تنتقل بالإرث ما عدا الحق "في إجراء تعديل أو حذف على المصنف". وهذه الحقوق محل إشكال إذا تنازع فيها ورثة المؤلف من حيث الرغبة في نشرها مثلًا، فرأى بعضهم أن يسحب المصنف من التداول ورأى آخرون منهم الترخيص لجهات الإنتاج والنشر بنشره. كما أنه لا يوجد وضوح من ناحية آلية تقسيم عوائد هذه الحقوق المالية بين الورثة. هذا مع العلم بأن نظام حماية حقوق المؤلف ولائحته التنفيذية لم يتطرقا إلى إشكالية تنازع الورثة هذه. وهو موضوع نرى أنه (كغيره من موضوعات حقوق المؤلف) يتصل بشكل أساسي بمسألة طبعية أو وضعية حماية حقوق المؤلف. فإذا قررنا طبعية هذه الحقوق، فسنعتبرها مالًا بالمفهوم الشرعي له ونجري عليها الأحكام الشرعية المعروفة المطبقة في توارث الأموال عمومًا التي حرر الفقهاء في جميع تفريعاتها، ولن نعين مدةً لملكيتها أو لإرثها. وعدم تقييد المدة سيتعارض مع نظام حماية حقوق المؤلف وجميع التشريعات الدولية، كما وضحناه أعلاه. وإذا كنا نعتبر هذه الحقوق وضعية وأنها ما أقرت إلا للمصلحة العامة المتناسبة مع الشريعة، فهنا لا إشكال في وجود تنظيم وضعي ينظم آلية تقسيم حقوق المؤلف بين الورثة، كأن يجعل الفيصل في ذلك للأكبر منهم سنًا أو للأكثر عددًا أو نحو ذلك بما يراه المنظم مناسبًا. ولكن ستبقى في ذلك أهمية أن تكون الأبحاث والفتاوى الشرعية في هذا المجال واضحة في هذا التأصيل وتتجنب الممارسة الشائعة فيها من الاستدلال على شرعية حماية هذه الحقوق بقياسها على حماية الأموال الشخصية.

أخيرًا، بصرف النظر عن الرأي الشرعي الأنسب في هذه الحقوق، فإنه من الضروري أن تكون الأبحاث الشرعية في هذا المجال مبنية على تأصيل واضح ومرتبط بالتوجهات الفلسفية القانونية في مجال حقوق المؤلف وأن تدرس هذه الأبحاث الآثار التطبيقية المترتبة على كل استدلال شرعي يستند إليه في حماية حقوق المؤلف. وذلك لضمان أن حماية هذه الحقوق المهمة مؤسسة على أصول شرعية وقانونية مطردة وتساعد المنظم والقضاء في تبني الأحكام المناسبة في كل مسألة من مسائل حقوق المؤلف.
 

التصنيف : حق المؤلف
author التأصيل الشرعي لحقوق المؤلف وقضية طبعية ووضعية هذه الحقوق

التعليقات (4)