أصبحت الملكية الفكرية مكونًا حيويًا للاقتصاد الحديث، مع ارتفاع مستمر في قيمة أصول الملكية الفكرية. وفي السنوات الأخيرة، ازداد حجم البيانات والمعلومات المتعلقة بالملكية الفكرية بشكل كبير. فالبيانات والمعلومات التي تتلقاها الجهة المسؤولة عن الملكية الفكرية في كل دولة (أو مكاتب الملكية الفكرية) من براءات اختراع وأصناف نباتية وعلامات تجارية ونماذج صناعية وغيرها – تعتبر ثروة من الممكن استغلالها اقتصاديًّا وعلميًّا. فإن كان يُنظر إلى الملكية الفكرية على أنها وسيلة لحماية الاختراعات والإبداعات الفردية وتحقيق الدخل منها، فالآن من الضروري الالتفات كذلك إلى تأثير استخدام بيانات الملكية الفكرية في تحديد الاتجاهات والفرص الناشئة، وكذلك في مساعدة المنظمات في تطوير وتسويق منتجات وخدمات جديدة. وهناك تجارب في أوروبا والولايات المتحدة وغيرها من الدول في إتاحة هذه المعلومات وتحليلاتها للعموم للاستفادة منها. ولكن لتحقيق أقصى الفوائد الممكنة من هذه المعلومات، نرى أن يكون هناك توجه إلى تأسيس مراكز لمعلومات الملكية الفكرية لتعزيز الاقتصاد المعرفي ودعم اتخاذ القرار في مجالات متنوعة. لذلك سوف نوضح رؤيتنا لفكرة مراكز معلومات الملكية الفكرية ونبرز جوانب أهميتها.
إن التعامل مع الكم الهائل من البيانات والمعلومات المتعلقة بالملكية الفكرية يستلزم وجود مراكز متخصصة لتكثيف الجهود في إدارة وتحليل هذه المعلومات بأحدث التقنيات وتكريسها فيما يحقق المنفعة العامة. فلجني ثمرة هذه المعلومات، يتطلب الأمر عناية خاصة وخبرات تقنية وعلمية وهندسية متظافرة. فمع استمرار نمو حجم معلومات الملكية الفكرية، سيعصب بشكل متزايد على المحللين البشريين مواكبة متطلبات إدارة هذه البيانات وتحليلها. فلا مناص إذن من الاعتماد على تقنيات الذكاء الاصطناعي (AI) والتعلم الآلي (ML) لإدارة وتحليل الكميات الكبيرة من بيانات الملكية الفكرية، حيث يمكن أن تساعد هذه التقنيات في أتمتة العديد من المهام التي تنطوي عليها إدارة بيانات الملكية الفكرية، مثل تحديد الأنماط والتنبؤ بالنتائج وتقديم الأفكار. من خلال بناء هذه القدرات، يمكن أن تصبح إدارة معلومات الملكية الفكرية أكثر كفاءة وفعالية، وذلك سيساعد في تحديد الاتجاهات وتطوير استراتيجيات جديدة لدفع الابتكار والنمو الاقتصادي، وخاصة إذا استفيد من تقنية التشغيل البيني للبيانات. فحالًّيا، غالبًا ما تكون بيانات الملكية الفكرية معزولة داخل المنظمات الفردية، وهو الأمر الذي يجعل من الصعب على الباحثين والمحللين الوصول إلى تلك البيانات واستخدامها. ونظرًا لأن قيمة بيانات الملكية الفكرية أصبحت معروفة على نطاق واسع، فمن المحتمل أن يكون هناك دفع أكبر نحو جعل هذه البيانات أكثر انفتاحًا ومن الممكن الوصول إليها. ويمكن أن يشمل ذلك تطوير تنسيقات وبروتوكولات موحدة لبيانات الملكية الفكرية، بالإضافة إلى إنشاء منصات وقواعد بيانات عبر الإنترنت تسهل على الأشخاص الوصول إلى بيانات الملكية الفكرية واستخدامها وقراءتها من مصادر متعددة.
فمن أهم فوائد وجود مراكز متقدمة في التعامل مع معلومات الملكية الفكرية من خلال الذكاء الاصطناعي هي مساعدة الجهات الحكومية في رسم سياساتها، خاصة في مجال دعم الأعمال والاستثمار. فعلى سبيل المثال، عند تحليل بيانات براءات الاختراع، سيتبين وجود أنماط مهمة في اتخاذ القرارات. فقد يتبين في بعض الحالات أن طلبات براءات الاختراع تتوجه نحو تخصص معين، غافلةً تخصصات أكثر أهمية لاقتصاد الدولة المعنية. فسينبه ذلك الجهات المعنية بالتعليم والأبحاث إلى الاهتمام بتعليم التخصصات المهمة في الاقتصاد ودعم الأبحاث فيها. وأحيانًا، قد تشير البيانات إلى العكس تمامًا، فتوضح أن تخصصًا ما عليه إقبال كبير في براءات الاختراع لدرجة الاكتفاء، فتقرر بناء على ذلك الجهة المعنية تأجيل الاهتمام بدعم هذا التخصص وتمويله. كذلك، من الممكن الاستفادة من بيانات العلامات التجارية في التعرف على الاستثمارات الأجنبية التي تسجل علاماتها في الدولة وتهتم بحفظ حقوقها فيها. فعلى هذا الأساس، بالإمكان توجيه السياسة الاستثمارية إلى التركيز على سوق معين أو مستثمرين من دول محددة.
وهناك مصلحة عامة ذات علاقة بالنقطة أعلاه، وهي ما يتعلق بدعم السوق المحلي والمنشئات الصغيرة والمتوسطة. فبتحليل بيانات طلبات الحماية المودعة مثلًا، من الممكن دراسة الطلبات التي قد يستفاد من استخدامها واستثمارها بعد انتهاء مدة حمايتها. فبناء على مثل هذا التخطيط، سيصبح من الوارد أن تكون هناك دراسات متخصصة توضح للسوق المحلي كيفية عمل التقنيات المسجلة ببراءات اختراع والتحضير لتطوير ما يشابهها أو يماثلها لاستغلال ذلك بعد انتهاء مدة حمايتها. فمن خلال بناء أساس قوي من المعرفة والخبرة، يمكن للمنشئات فهم قيمة معلومات الملكية الفكرية والاستفادة منها بشكل أفضل، مما سيساعدها على اتخاذ قرارات أكثر استنارة وفعالية. كما يمكن أن يستفاد من ذلك في الاستثمار في برامج التدريب والتطوير المهني وتشجيع الموظفين على الانخراط في أنشطة التعلم والتطوير المهني المستمر والمرتبط بالتقنيات ووسائل الإنتاج الحديثة.
ومن أبرز فوائد تطوير مراكز معلومات الملكية الفكرية هي أن تكون داعمة للبحث العلمي والأكاديمي لأن تصبح الأبحاث والدراسات في الجامعات والمؤسسات العلمية والبحثية متصلة بآخر التطورات التقنية ومنبثقة من تصور واضح للسوق. فحاليًا مع صعوبة قراءة وتحليل معلومات وبيانات براءات الاختراع والأصناف النباتية والعلامات التجارية والنماذج الصناعية وغيرها من مجالات الملكية الفكرية – لا يتمكن الباحثون من الرجوع إلى هذه المعلومات بسهولة للاستفادة منها في مناهج ونتائج أبحاثهم. فتيسير قراءة هذه البيانات وتخصيصها وفقًا للتخصصات والحقول العلمية سيكون ممكنًا للباحثين في قراءة التقنيات والابتكارات والتعرف على التوجهات الصناعية والتقنية والتجارية المفيدة لهم في إخراج أبحاث لها أثر عملي وواقعي واقتصادي.
في الختام، من المرجح أن يتسم مستقبل معلومات الملكية الفكرية بالاعتماد المتزايد على تقنيات الذكاء الاصطناعي والتعلم الآلي، والأهمية المتزايدة للبيانات المفتوحة وإمكانية التشغيل البيني للبيانات، والتركيز على استخدام الملكية الفكرية لدفع الابتكار والاقتصاد.