مع تزايد معاملات الاتفاقيات، والتراخيص المتعلقة بالملكية الفكرية، زاد الاهتمام بالبحث عن حلول سريعة، تضمن المحافظة على حقوق الملكية الفكرية، والآثار المالية المرتبطة بها حال حدوث نزاع حولها، من خلال اللجوء إلى ما يعرف بوسائل تسوية النزاعات البديلة (Alternatives Dispute Resolution "ADR") التي لها عدة صور وأشكال، مثل الوساطة والتسهيل، والتحكيم ومؤتمرات التسوية. وتستخدم هذه الوسائل لتجنب الإجراءات المطولة والكلفة العالية لرفع القضايا في أماكن نشوء تلك النزاعات عبر الطرق التقليدية في المحاكم، والدوائر، واللجان المختصة. ولكون الوساطة والتحكيم أهم هذه الوسائل البديلة، وأوسعها استخدامًا، فسنناقش في هذه المقالة أهمية الاستفادة منها في مجال الملكية الفكرية.
يقصد بالوساطة بشكل عام- أن يختار أطراف النزاع شخصًا لمساعدتهم في الوصول إلى حل مقبول في تسوية نزاعهم، حيث يتحكم الطرفان في جوهر المناقشات، وأي اتفاق يتم التوصل إليه، ويحاول الوسيط الاستماع للطرفين، ومساعدتهما في تحديد القضايا في النزاع وبعض الحلول المقترحة، وصياغة مسودة التسوية. وتعود جذور الوساطة في العديد من الثقافات إلى مئات السنين عبر التاريخ. فالصينيون قد استخدموا الوساطة لحل النزاعات الشخصية منذ أكثر من 2000 عام. واستعانت القبائل الأمريكية الأصلية بمن يعرفون لديهم بمستشاري السلام الذين يقومون بمهام تشبه إلى حد كبير- الوساطة محل النقاش في هذا المقال. كما اتبعت كثير من الثقافات والمجتمعات هذه الوسيلة لحل النزعات بصور وطرق متفاوتة.
أما التحكيم فهو الوسيلة الأكثر رسمية من وسائل تسوية النزاعات البديلة، حيث يتم اختيار محكَّم يتفق عليه الطرفان، ويستمع الى أدلة وحجج كل طرف من أطراف النزاع، ومن ثَمَّ يقرر نتيجة النزاع بناء على رأي مسبب. وقد تكون وسيلة التحكيم ملزمة في حال أن الأطراف اتفقوا على تنازلهم عن الحق في اللجوء لطرق حل النزاع التقليدية. ويعتبر قرار المحكَّم نهائيًا، ولا يجوز الطعن فيه إلا برفع طلب بطلان حكم التحكيم في حالات استثنائية بينتها المادة الخمسين من نظام التحكيم. والتحكيم أسلوب ممارس كذلك من قديم الزمان في كثير من المجتمعات. وقد حكى الإمام السرخسي في كتابه المبسوط إجماع الصحابة على جوازه. وقد احتوت وصية الزعيم الأمريكي جورج واشنطن على بند خاص بالتحكيم، حث فيه عليه، واقترح فيه كذلك آلية اختيار المحكمين.
ولأسباب تتعلق بالسياسات العامة، لم تتح الولايات المتحدة الأمريكية حل قضايا الملكية الفكرية عبر وسائل التسوية البديلة حتى عام 1982م، لما أصدر الكونجرس الأمريكي تشريعًا يسمح بالتحكيم في نزاعات براءات الاختراع. إلا أن معظم المحامين لم يكونوا يعتقدون بإمكانية حل قضايا الملكية الفكرية إلا من خلال التقاضي في المحاكم. وفي بدايات تسعينات القرن الماضي شجعت المحاكم الأمريكية على استخدام الوسائل البديلة في حل المنازعات عبر إصدار عدة قوانين، مثل قانون إصلاح العدالة المدنية عام 1990م، الذي يشجع المحاكم على إيجاد حلول غير مكلفة لتسوية النزاعات، وأيضًا قانون تسوية المنازعات الإدارية الذي أصدر في ذات السنة، وطالب جميع الوكالات الفيدرالية باستخدام وسائل تسوية النزاعات، باعتبارها بديلًا عن التحاكم التقليدي. وذلك ساعد في استخدام وسائل تسوية النزاعات بشكل واسع النطاق في قضايا الملكية الفكرية على وجه الخصوص.
أما على المستوى الدولي، فقد أنشأت المنظمة العالمية للملكية الفكرية (الويبو) في عام 1994م مركز الوساطة والتحكيم، الذي يعطي خيارات بديلة لتسوية النزاعات، وذلك لصالح نزاعات التجارة الدولية بين الأفراد والمؤسسات، حيث تختار الأطراف المتعاقدة من الشركات والمراكز البحثية الدولية بشكل متزايد- مركز الوساطة والتحكيم في الويبو في عقودها، باعتبارها وسيلة تسوية للنزاعات أثناء حدوثها. وتزايدت أعداد هذهالطلبات على المركزبأكثر من أربعة أضعاف خلال العشر سنوات الأخيرة، وكان من بينها طلبات قدمت من قبل أطراف من المملكة.
وبالنسبة للتحكيم في المملكة، فيقوم المركز السعودي للتحكيم التجاري بتقديم خدمات تسوية النزاعات، والإشراف عليها، شريطة أن تتضمن العقود بين الأطراف حكمًا بأن يسوى أي نزاع وخلاف ينشأ عن العقد عن طريق التحكيم. ومع استعداد المركز للتعامل مع قضايا الملكية الفكرية المختلفة، إلا أنه لا توجد سوابق يمكن دراستها لتقييم الحاجة إلى إنشاء مركز متخصص في قضايا الملكية الفكرية، لتقديم وسائل بديلة لتسوية النزاعات. ومن هنا يأتي التساؤل بعد فهم أهمية ومزايا وسائل تسوية النزاعات البديلة حول الحاجة إلى إنشاء مركز متخصص في التحكيم والوساطة في قضايا الملكية الفكرية في المملكة.
لعل من أبرز القرارات غير الخاضعة لمعايير منضبطة في مجال الملكية الفكرية هي قرارات قبول أو رفض تسجيل العلامة التجارية. فليس من المستغرب أن نجد في علامة معينة آراء مختلفة بين فاحص العلامة التجارية في الهيئة السعودية للملكية الفكرية، وعضو لجنة النظر في تظلمات العلامات التجارية، وقاضي المحكمة المختصة. وهذا الأمر متوقع لأن صاحب القرار في العلامة التجارية مضطر إلى تحكيم عقله المستند إلى معلوماته العامة وأذواقه المتغيرة في أمر (أي العلامة التجارية) يتعلق بمعلومات ووعي وطبائع جمهور المستهلكين. ولذلك نجد أن في هذا الأمر تضاربًا في التقديرات عند أصحاب القرار المتعلق بتسجيل العلامة التجارية، يساهم فيه بشكل كبير ضعف في وضوح معايير فحص العلامة التجارية. ولتوضيح بعض هذه الإشكاليات والتأكيد على أهمية الدراسة العميقة لمعايير فحص العلامة التجارية، سنناقش في هذا المقال أحد معايير فحص العلامة التجارية وهو أن تكون العلامة التجارية مميزة بذاتها ونبرز بعض الإشكاليات الخاصة به.
إن معيار تميز العلامة التجارية بذاتها (inherent distinctiveness) يتعلق بالمرحلة الأولى من مراحل فحص العلامة التجارية وهي مرحلة فحص العلامة من حيث صلاحيتها الذاتية لأن تكون علامة تجارية، وتلي هذه المرحلة مرحلة أخرى تتعلق بفحص العلامة من حيث صلاحيتها لا في ذاتها ولكن بالنظر إلى أسباب خارجة عنها كتشابهها مع علامة مودعة من الغير. ويفهم المقصود بمعيار تميز العلامة بفهم شرطيه. فشرطه الأول هو وجوب اتصاف العلامة بالقدرة على الدلالة على منتج أو خدمة. فاللون المجرد مثلًا لا ينطبق عليه هذا الشرط لكونه قاصرًا عن أن يكون بذاته في ذهن المستهلك دلالة على منتج معين أو خدمة معينة. وأما شرطه الثاني فهو ألا تتعلقَ الدلالة بخصائص وصفات المدلول، أي المنتج والخدمة. فلا تصلح تسمية علامة منتج ما مثلًا بذات اسم المنتج أو بصفة له كقولنا برتقال للبرتقال، أو طازج للخضار ونحو ذلك، فهذه الأسماء وإن كانت تدل على المنتج الذي وضعت لأجله إلا أن تلكم الدلالة متعلقة بخصائص وصفات المنتج الدالة عليه.
وهذا المعيار قد يبدو واضحًا من القراءة الأولى له. إلا أننا نجد تفاوتًا واختلافًا في تطبيق أحكامه. فأبرز الإشكالات المتعلقة به تظهر لنا من خلال التساؤلات التالية:
1- عند تضمن علامة تجارية جزءًا غير مميز، كتضمن جزء من العلامة وصفًا لخصائص المنتج الذي وضعت لأجله، مع اشتمال العلامة على جزء آخر مميز دال على مصدر المنتجات أو الخدمات مع مغايرته لأسمائها وأوصافها، فهل تعد هذه العلامة مميزة وقابلة للتسجيل؟
2- للألفاظ حقائق مختلفة. فهنالك حقيقة اللفظ اللغوية التي تعرف بالنظر إلى الوضع العربي لها ابتداء، وهنالك حقيقة اصطلاحية تعرف بالنظر إلى اصطلاح أهل فن معين على لفظ ذي دلالة مغايرة لوضعها في اللغة، وهنالك حقيقة اللفظ العرفية، وهي اللفظ المستعمل فيما وضع له في العرف. فلما كان هذا هو الحال، فأي الحقائق يقدم عند فحص العلامة التجارية من حيث التمييز؟
3- عند استخدام لفظ وصفي بلغة ليست من اللغات المستخدمة في المملكة بصفتها علامة تجارية، هل يعد هذا اللفظ مميزا ويحقق مقصد معيار التميز في الدلالة من حيث التطبيق، رغم وقوعه في الوصفية من حيث الحقيقة اللغوية وربما العرفية في بلد ما؟
رغم أن المسائل أعلاه ما هي إلا أمثلة لبعض إشكاليات تطبيق معيار التميز، فإنها قد تعد أساسًا لغالبية الإشكاليات التي يتعامل معها متخذ القرار عند تطبيقه لهذا المعيار. ولنقاش هذه المسائل نستعرض النص النظامي لمعيار التميز الذي يعد من وجهة نظرنا من أجمل الصياغات القانونية التي جاء بها نظام العلامات، وذلك لاختصاره في العبارة وتضمنه البيان الكافي لكثير من إشكالات المعيار الخفية. فجاء في المادة الثالثة من نظام العلامات التجارية الخليجي ما نصه:
"لا تعد علامة تجارية أو جزءا منها، ولا يجوز أن يسجل بهذا الوصف ما يأتي:
1- العلامة الخالية من أية صفة مميزة، أو العلامات المكونة من بيانات ليست إلا التسمية التي يطلقها العرف على السلع والخدمات، أو الرسوم المألوفة والصور العادية للسلع".
ونلحظ ابتداء أن هذا النص النظامي جاء بلاءين نافيتين. الأولى وردت في فقرة "لا تعد علامة تجارية أو جزءا منها"، والثانية في فقرة "ولا يجوز أن تسجل بهذا الوصف ما يأتي". إلا أن اللاء الثانية جاءت في سياق النهي. وهذا يعني أن اللاء الأولى جاءت لنفي قابلية بعض الألفاظ والرسومات والرموز لأن تكون علامة تجارية أو جزءا منها، بعيدًا عن كونها مسجلة أو غير مسجلة، أو قابلة للتسجيل في مجموعها أو لا. وأما اللاء التي جاءت بمعنى النهي، فهي تفيد منع تسجيل ما انطبقت عليه الصفات المذكورة في القائمة التي تلتها. وللتمثيل لأهمية هذا التفريق، دعونا نطبق ذلك على المسألة الأولى التي ذكرناها آنفا حول مدى إمكانية حماية العلامة التجارية إذا تضمنت جزءًا مميزًا وجزءًا وصفيًا.
فبالنظر إلى النص النظامي، لا يعد الجزء الوصفي علامة تجارية لنفي النظام بلا النافية وصف العلامة عنها، ولكن بالنظر إلى عبارة "ولا يجوز أن تسجل" فالنظر هنا إلى معنى النهي الذي جاء سياق العبارة به، وفي مسألتنا هذه فالوصف الناهي عن التسجيل هو ما جاء في الفقرة الأولى من المادة الثالثة الذي جاء نصه" ولا يجوز أن تسجل بهذا الوصف... العلامة الخالية من أية صفة مميزة، أو العلامات المكونة من بيانات ليست إلا التسمية التي يطلقها العرف على السلع والخدمات، أو الرسوم المألوفة والصور العادية للسلع". وهنا نلحظ أن النظام منع تسجيل العلامات الخالية من أية صفة مميزة. والخلو يفيد الانتفاء المطلق لأية صفة مميزة. بمعنى وجوب أن تكون العلامة في مجموعها وصفية أو هي في ذاتها اسم المنتج، أو أن الجزء غير الوصفي منها لا يتصف بالدلالة على مصدر المنتج أو الخدمة، وهو الشرط الأول من شرطي معيار التميز سالفي الذكر. وقد أكد المنظم هذا المعنى بإضافة "أية" وهي من صيغ العموم. وعليه، فإن مفهوم المخالفة يدل على أن وجود أية صفة مميزة قلت أو كثرت يوجب قابلية العلامة للتسجيل إن لم يتعلق المنع بمانع آخر، كالتشابه مع علامة أخرى ونحوه.
إن تقرر ذلك، فماذا عن الجزء الوصفي في العلامة، فهل يحمى إن سجلت العلامة بحجة الجزء المميز؟ الجواب أنه لا يحمى، وذلك بسبب لا النافية الأولى التي نفت أن يكون اللفظ غير المميز علامة تجارية أو جزء علامة. وبالتالي فالجزء الوصفي رغم تسجيله يعد تبعيًا لا حماية له بذاته بمعزل عن مجموع العلامة.
ومن المسائل المتعلقة بمعيار التميز أيضًا، مسألة تعدد حقائق اللفظ وأيها يعد مقدمًا عند النظر في تميز العلامة. فللفظ حقيقة لغوية وحقيقة اصطلاحية وأخرى عرفية، بل حتى هذه الحقائق المختلفة تتعدد بتعدد اللغات والاصطلاحات والأعراف. وعليه فإنه من المتعين تحديد معيار منضبط عند فحص العلامة للنظر في انطباق شرط التميز. وفي هذا الباب نص نظام العلامات التجارية في الفقرة الأولى من المادة الثالثة على أن المعتبر هو دلالة اللفظ العرفية، فجاء في نص المادة" العلامات المكونة من بيانات ليست إلا التسمية التي يطلقها العرف على السلع والخدمات" وهذا الأمر متوافق مع المقصد التشريعي من نظام العلامات الذي ينظر إلى المستهلك بالدرجة الأولى، والعرف هو خير ما يدلنا على نظرة المستهلك للعلامة ومدى تميزها في نظره. ولكن أيعني هذا استبعاد الحقيقة اللغوية والحقيقة الاصطلاحية من المعادلة، وكذلك مع تعدد الأعراف فأي عرف يقدم؟
الجواب نعم من جانب ولا من جانب آخر، وذلك أن النظر في التميز من حيث تعلق الدلالة بصفات وخصائص المنتج أو الخدمة عائد إلى نظر جمهور المستهلكين المعني. ففي حال كانت التسمية المعروفة لمنتج أو خدمة هي حقيقة اللفظ اللغوية أخذ بها، وإن كانت الاصطلاحية أخذ بها وهكذا. فمثلًا عندما يكون جمهور المستهلكين من المختصين كالصيادلة أو الأطباء، قدمت الحقيقة الاصطلاحية لمعرفتهم بالاصطلاح واستخدامهم له. وفي المقابل، فإن الألفاظ التي لها معان تعد تسمية للمنتج أو وصفًا له من حيث الوضع اللغوي، فلا عبرة لجانبها الوصفي مادام جمهور المستهلكين لا يستخدمونها لتسمية المنتج أو وصفه. فمثلا لو أراد شخصًا أن يسجل كلمة كرم أو حبلة والتي تعني شجرة العنب أو العنب كعلامة تجارية على الفواكه والخضروات، لكان لقبول تسجيلها وجاهة لعدم استخدام جمهور المستهلكين هذين اللفظين على العنب في عصرنا الحالي. ومن باب أولى، عندما تكون الكلمة بلغة غير العربية وليست من اللغات المنتشرة عند جمهور المستهلكين في المملكة.
وأخيرًا، نرجو أننا من خلال هذا المقال قد أوضحنا بشكل عام بعض أبرز الإشكاليات المتعلقة بفهم معايير فحص العلامة التجارية وتطبيقاتها. وبناء عليه، نؤكد أنه من المهم إثراء النقاش حول هذه المعايير وتدارسها بين أصحاب الشأن والمتخصصين للوصول إلى تفسيرات وحلول قانونية من شأنها تطوير معايير فحص العلامة التجارية وضوابطه بما يقلل من التفاوت بين قرارات الفاحصين وبما يضمن العدالة بين المتنافسين في العلامات التجارية.
تــزود هــذه الــدورة المتخصصــة مــن المســتوى المتوســط المشــاركين بفهــم شــامل للســمات والمزايــا الرئيســية
لإلجـراءات التـي وضعهـا مركـز الويبـو للتحكيـم والوسـاطة.